الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعلم أن التاريخ مرآة الأمم يعكس ماضيها،ويترجم حاضرها،وتستلهم من خلاله مستقبلها؛ ولذلك ينبغي الاهتمام به والحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحًا،بحيث يكون نبراسًا وهاديًا لهم فيحاضرهم ومستقبلهم، فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها؛ إذ به قوام الأمم تحيا بوجوده وتموت بانعدامه، فالتاريخ يمدنا بحلول لحاضرنا؛ ولذلك فهو يعين على فهم الواقع؛ لأن فهم الحاضر لا يتم إلا عن طريق دراسة الماضي، فدراسة الماضي تكسب الإنسان خبرة السنين الطويلة خاصة أن حياة الإنسان قصيرة بالنسبة لتاريخ البشرية، ولهذا قال أحد مؤرخي المسلمين القدامى.
(إن من قرأ التاريخ فقد عاش الدهر كله)
ففي دراسة التاريخ الاعتبار من قصص الأولينفنتعرف على الجوانب المشرقة في تاريخنا فنقتفي أثرها، ونقف أيضًا على الجوانب السلبية فنتجنبها ونبتعد عنها.
فدارس التاريخ يعرف أين يضع قدمه وكيف يقود نفسه ومجتمعه وأمته، فدارسة التاريخ كالشمس الساطعة تنير للأجيال.
قال ابن خلدون: أعلم أن فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفائدة، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم في سيرهم، والملوك في دولهم وسياساتهم حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يروحه في أحوال الدين والدنيا.
إن التاريخ يظهر السنن الكونية في صعود الأمم وهبوطها، فتمكن بدراستها من تجنب عوامل السقوط والأخذ بالآليات التي تؤدي إلى صعود الأمة وتمكينها.
ودراسة التاريخ الإسلامي تعطي صورة حية للواقع الذي طبق فيه الإسلام، وبمعرفته نقف على القدوات الصالحة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه وتركت صفحات بيضاء ناصعة لا تنسى على مر الأيام والسنين.
ودراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى معرفة هدية صلى الله عليه وسلم في الأمور كلها هدية في المنام والطعام والشراب والنكاح، هدية في الحل والترحال، هدية في السلم والحرب، هدية في التعامل مع ربه ومع نفسه ومع المخلوقين، هدية في التعامل مع الموافقين والمخالفين، هدية في التربية والتعليم والدعوة والإرشاد، هدية في كل ما يحتاجه البشر، وكذلك تؤدي إلى معرفة المسالك التي تؤدي إلى بر الأمان، وكذلك الوقوف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام التي تضمنتها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وكذلك معرفة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفات والشمائل للاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
وكذلكم فإن دراسة التاريخ الإسلامي تعين على معرفة تاريخ الرواة من جهة وقت الطلب واللقاء والرحلة في طلب العلم والاختلاط والتغير وسنة الوفاة، وحال الراوي من جهة الصدق والعدالة وكذلك فإن دراسة التاريخ تعين على معرفة الناسخ والمنسوخ؛ إذ عن طريقه ومن خلاله يعلم الخبر المتقدم من المتأخر فالتاريخ الإسلامي مادة مهمة في مجال العقيدة والأحكام والدعوة والجهاد والأخلاق
وهو سجل حافل من مآثر سلفنا الصالح فهو عبارة عن قوالب تختزن فيها وقائع تشتمل على نماذج حية من تطبيق الإسلام على هذه الأرض، فحينما تروى النصوص ضمن وقائع حدثت بالفعل من رجال سموا إلى المعالي وتخلصوا من ضغط الجاهلية وجردوا أنفسهم لما يحبه الله تعالى منهم وأصبحوا يمثلون الإسلام الواقعي المطبق في الحياة وليس الإسلام المسطر في الكتب فحسب، هذا يدفع النفوس إلى التأثر ومحاولة التأسي بأولئك الكرام؛ ولذلك اتجهت همة العلماء رحمهم الله تعالى إلى جمع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسير الصحابة رضي الله عنهم والمصلحين من بعدهم واستفاد منها المربون عبر الأجيال في إصلاح النشء وتقويم السلوك.
ولما كان كل عصر له ملامحه الخاصة من حيث تغير أنماط الحياة الاجتماعية واختلاف موارد الثقافة وتعدد المناهج السياسية والاقتصادية وتنوع وسائل الغزو الفكري من الأعداء، كان لابد من إعادة دراسة سيرة السلف الصالح ومحاولة الاستهداء بها في تقويم حياة المسلمين على ضوء الحياة المعاصرة .
ونحن حينما نحيي مآثرنا ونردد مفاخر ماضينا فليس ذلك لمجرد استجلاب النشوة بتذكر أيام عزنا ومجدنا، وليس ذلك لمجرد الاستعلاء على الآخرين أو تعزية النفوس عن النقص الحاضر بترديد مفاخر الكمال في الماضي وإنما ليكون ذلك دافعًا إلى انبعاث الحياة في النفوس لتعود هذه الأمة إلى رقيها الأخلاقي الكامل لتأخذ بأسباب التقدم المادي المناسب لعصرها حتى تكون كسلفها الصالح أقوى وأكبر أمة في هذه المعمورة.
إذًا التاريخ فيه عظات وعبر وآيات ودلائل كما قال تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)الأنعام:11 فهذه آثار الأمم السابقة بين أيدينا شاهدة
كما أن التاريخ فيه استلهام للمستقبل على ضوء السفن الربانية الثابتة التي لا تتغير ولا تبدل ولا تحابي أحدًا كما أن فيه شحذاَ للهمم وبعثاً للروح من جديد وتنافس في الخير والصلاح والعطاء، وكذا يفيد في معرفة أخطاء السابقين والحذر من المزالق التي تم الوقوع فيها عبر التاريخ أخذًا بالهدي النبوي فيما قاله عليه الصلاة والسلام (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين) أخرجه البخاري ومسلم
والتاريخ الإسلامي يجعل لدى المعلم والداعية الإسلامي نموذجاً حياً عن طرائق التربية والتعليم التي ربى النبي صلى الله عليه وسلم عليها أصحابه خلال مختلف مراحل الدعوة، فالتاريخ يربط القديم بالحديث، والتاريخ بالواقع، والحاضر بالماضي، فتشعر أن التاريخ حي ينبض ولسان ينطق، فالتاريخ لا يحدثنا عن رجال ماتوا ولا عن بلاد طواها التاريخ بين صفحاته العديدة، ولكنه يحدثنا عن أحداثنا وينبئنا بأنبائنا ويخبرنا بأخبارنا لأن التاريخ يعيد نفسه .
والتاريخ الإسلامي هو تاريخ أمة شاهدة أمة خاتمة أمة صالحة أمة تقية نقية هو تاريخ أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، داعية إلى كل خير ناهية عن كل شر التاريخ الإسلامي
هو تاريخ رجال، ما عرف التاريخ أمثالهم رجال فقهوا دينهم ودنياهم فأداروا الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، فتحققت المعادلة الصعبة العجيبة؛ عز في الدنيا وعز في الآخرة، مجد في الدنيا ومجد في الآخرة، ملك في الدنيا وملك في الآخرة.
التاريخ الإسلامي هو تاريخ حضارة جمعت كل مجالات الحياة في منظومة رائعة راقية، جمعت الأخلاق، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والقضاء، والترفيه، والقوة، والإعداد، والتدبير والإعمار، جمعت كل ذلك جنبًا إلى جنب مع سلامة العقيدة، وصحة العبارة، وصدق التوجه، ونبل الغاية .
فالتاريخ ثروة مدفونة وكنز عظيم يحتاج إلى بذلك مجهود وتفريغ وقت وحشد طاقات، يحتاج إلى عقول وقلوب وجوارح، يحتاج إليكم جميعًا يما من ترجون للإسلام تمكيناً.